المواضيع الأخيرة
المواضيع الأكثر شعبية
المواضيع الأكثر نشاطاً
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم |
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
سحابة الكلمات الدلالية
عام الجراد...مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى: نهاية "الوطن العثماني" والانقطاع عن الماضي
ماها- عضـــو جديــد
- الجنس :
الأبراج الصينية :
عدد المساهمات : 37
نقاط : 103
وسام السبيل : 0
تاريخ الميلاد : 06/03/1988
تاريخ التسجيل : 25/08/2011
العمر : 36
الموقع : السبيل
العمل/الترفيه : معلمة
المزاج : ثورية
الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا
النص المأخوذ من كتاب "عام الجراد: اندثار الهوية العثمانية في فلسطين"،
الذي سيصدر قريباً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.
بعكس الوضع الذي نتج عن الحرب العظمى في أوروبا الوسطى والغربية حيث
مهدت فظائع الحرب إلى نمو أجهزة الدولة الحديثة القامعة، وحركة تضامن
أُممية وامتزاجها بامكانيات التحرر الاجتماعي الواعد، فجّرت الحرب رؤى
مخالفة من التوقعات في المشرق العربي. مقابل الحركات الاشتراكية الأممية،
ولّدت الحرب هنا تشكيلات قومية وحركات متعطشة لنيل الاستقلال الوطني.
ومقابل التيار الداعي إلى الانعتاق الاجتماعي في أوروبا، نرى في الشرق
احتضان النخبة المثقفة العربية لمفاهيم الحداثة المختلفة، وهو تبنّ ساهمت
آلية الحرب بتسريعه عن طريق تقويض العصبيات المحلية وخلق المجتمع الجماهيري
– مجتمع الحداثة – وما يرافقه من مؤسسات: الصحافة الشعبية، التعليم
العمومي، ومفهوم المواطنة الحديثة، وهي كلها مؤسسات كانت المجتمعات
الأوروبية قد دخلت فيها – بدرجات متفاوتة – في القرن السابق. إلا أن هذين
التيارين: تجربة الانعتاق الاجتماعي وبروز هوية قومية مستحدثة (إن كانت
عربية، شامية أو فلسطينية) امتزجا معاً فقط على المستوى المفاهيمي المجرد.
أما في وجدان العسكري إحسان وجيله – كما سنرى – فقد ظهرا وكأنهما تجربتان
منفصلتان.
اكتشاف الذات
تمحورت حداثة الحرب في دخول إيقاعات جديدة وغير مألوفة على الحياة
اليومية. تحدثنا فيما سبق عن هذه الإيقاعات في مفهوم جديد للزمن (تقسيم
اليوم إلى ساعات محددة) وللجغرافيا (إعادة ترسيم موقع فلسطين والقدس في
الحيز السلطاني) وفي الحراك (الذي نتج عن استخدام وسائل النقل الجديدة من
سكة الحديد والسيارة)، وفي إدخال نمط جديد من انضباط العمل العسكري الذي لم
يعهده الجنود في السابق وعلى مستوى جماهيري واسع، وأخيرا احتلال حيز الليل
(من خلال الإنارة الكهربائية وتأمين الحراسة في الشوارع خارج أسوار
المدينة). دلالة هذا الاستحداث الأخير أنه أصبح بإمكان سكان المدن أن
يمارسوا أنماطا اجتماعية وترفيهية بعد ساعات النهار المعهودة، وتغيير في
مفهوم الزمان والمكان. ومن تبعات هذا الإحساس الجديد بالحراك، أن أنماط
العمل والاختلاط الاجتماعي بدأت تتجاوز الحدود الضيقة للضيعة والمدينة. نرى
أن الترجمان مثلاً عندما كان يرتب خططه في الزواج عند اقتراب نهاية الحرب
بدأ في البحث عن شريكة لحياته من خارج القدس – وهي إمكانية كانت نادرة وغير
مستساغة للجيل الذي سبقه.
أدخلت الحرب أيضا الجرائد والمنشورات والكتب ذات التوزيع الجماهيري
الواسع النطاق. في بداية الحرب كانت الصحيفة اليومية تقرأ من منبر عمومي في
المقاهي العامة للزبائن ألاميين وللرواد الذين لا يملكون ثمن الجريدة.
بالطبع كانت الصحف اليومية منتشرة بشكل محدود في مصر وفلسطين وسوريا وجبل
لبنان، ولكن توزيعها ازداد بشكل ملحوظ نتيجة تعطش الجمهور لمعرفة أخبار
الجبهات القتالية في العراق والسويس والدردنيل، حيث أُرسل أفراد من
أقربائهم ومعارفهم للقتال. من مطالعات إحسان نتعرف إلى القصص الشعبية
(والعديد منها معرّب من روايات غرامية ذات أصول أوروبية) والكتب التربوية
التي كانت متوفرة للشباب والشابات في ذلك الحين. انتشرت تحديداً في أوساط
الجنود كتب مثل "دليل اختيار الزوجة"، وهي إرشادات عن الحياة الجنسية
والعاطفية المتوقع التحضير لها. كما رأينا انتشرت الدعارة بسبب الفقر
المتزايد من ناحية وابتعاد الأزواج (أو اختفائهم في ساحات القتال) عن
زوجاتهم وعائلاتهم. وساهمت القيادة العسكرية العثمانية في هذه الظاهرة عن
طريق إنشاء دور البغاء لخدمة احتياجات الجنود (وخصوصاً الضباط) الذين
انقطعوا لأشهر وسنوات عن الحياة الاجتماعية العادية.
تعكس يوميات العسكري إحسان اهتماماً محموماً بالعناية الجسدية تكاد
تقارب الهوس. ولا شك أن السنوات التي قضاها في الكلية الدستورية ساهمت في
تعزيز هذا الشغف الذي نلمسه من خلال التركيز على الرياضة الجسدية والتدريب
"العسكري" في المنهاج الدراسي. وفي روضة المعارف التي أنشأها الشيخ محمد
الصالح في القدس، أُدخلت أيضا التدريبات البدنية والعسكرية للطلاب من
الصفوف الأولى.
وكان معلمه خليل أفندي مشهوراً بنظامه الجسدي الصارم والذي كان يبدأ
نهاره بالاستحمام بالمياه الباردة – شتاءً وصيفاً – وبالتمارين السويدية،
والتي حاول إحسان الالتزام بها. وكانت المصارعة الحرة من هوايات السكاكيني
المعروفة والتي كثيراً ما كان يفرضها على زملائه وطلابه ومدرسيه. وكان
إحسان يعاني من حالات متوسطة من الهوس المرضي – المعروفة بالهايبوكوندريا -
وكثيراً ما نجده يفحص جسمه يومياً بحثاً عن دلائل المرض في أطرافه. وكان
هاجسه المستمر الإصابة بأحد الأمراض المنتشرة في فلسطين خلال الحرب:
الملاريا والكوليرا والتيفوس. ولاشك أن هذا الهاجس كان مبرراً، حيث مات
العديد من معارفه ورفاقه منها.
تميزت القدس عن جميع العواصم الإقليمية العثمانية بتوفر مرافق صحية
متطورة وذلك بسبب وجود مستوصفات ومستشفيات حكومية وإرسالية أعطت
الفلسطينيين خيارات صحية متعددة. وكان إحسان على اتصال دائم بطبيبين من
أقربائه هما حسن شكري وحسين فخري الخالدي – أبناء خالته – وكانا قد تخرجا
حديثاً من الكلية الطبية في بيروت والتحقا بالطاقم الطبي للجيش العثماني
بالقدس. وكانت علاقته قوية بجاره الاجزخاني (الصيدلي) رستم أفندي أبو غزالة
الذي لعب دوراً في محنته الأخيرة والتي أدت إلى مقتله عام 1917. وفي
زياراته العديدة إلى عيادة الدكتور توفيق كنعان —الباحث المعروف ومدير
المستشفى العسكري في القدس، الذي كان طبيب العائلة. وقد اعتمد إحسان على
كنعان في الحصول على أجازات صحّية سمحت له بالهرب من الدوام العسكري بين
الفينة والأخرى. وعندما اكتشف إحسان التهاباً في خصيته في أحد الأيام
انتابه الرعب، خصوصاً بعد أن عاينه الدكتور حسن وأخبره انه يعاني من "الداء
الإفرنجي". نجده يحتج على هذا التشخيص للداء مستعملاً التعبير المنسوب إلى
مريم العذراء عندما اخبرها ملاك الرب أنها حامل "كيف أصاب وأنا لم يمسسني
بشراً!!" وهنا يلمح الخالدي أانه ربما حصل عليه "من معاشرة الجنود"، مما
يدفع إحسان إلى التهديد بالانتحار. وكان هاجسه حينها أن يصاب بمرض يمنعه من
الزواج من محبوبته ثريا. في النهاية اختفى الالتهاب بعد العلاج وعاد إحسان
إلى رشده.
يبدو من الملاحظات المعاصرة أن الممارسات المثلية كانت منتشرة في حامية
القدس العسكرية، كما هو الوضع في تجمعات الجيوش بشكل عام. ولكن عندما بدأ
احد الضباط الأرناؤوط (الألبان) في مغازلة إحسان، ثم ملاحقته بدون هوادة،
وجد نفسه في مأزق عويص. كان الأرناؤوطي يكتب له رسائل غرامية يعبر فيها عن
رغبته في اللعب بشعره "وتقبيله بين عينيه". وعندما صدّ إحسان الضابط بجفاء
تحول الأخير إلى نغمة التهديد واخذ يضطهده في ساعات الدوام وبعد العمل في
بيته. ثم اعتاد هذا الأخير أن يزوره ليلاً ويهدده بالقتل. أخيرا، عندما
ضاقت الدنيا بإحسان لجأ إلى الشكوى لقائده الأعلى، على روشن بيك – وكان
ألبانيا أيضا مثل الضابط، بالرغم من خوفه من انتقام خصمه هذا.
في هذا المنعطف الدرامي تتوقف اليوميات فجأة. ويلقى الحادث ظلاً قاتماً
على ظروف اختفاء الترجمان، خصوصاً على ضوء الرواية المتداولة في العائلة
والتي تقول أن ضابطاً عثمانياً اغتال إحسان قبيل انسحاب الجيش ودخول قوات
الجنرال اللنبي إلى القدس في 9 ديسمبر 1917.
يحتلّ البحث عن الحب جزءاً كبيراً من يوميات الترجمان. وتجربته هنا لا
تختلف في جوهرها عن معاناة أي شاب عربي في مطلع القرن الماضي. وكما هو
الحال في مذكرات محمد الفصيح، بالرغم من انشغال الأخير بتدهور الوضع
العسكري في جبهة القتال، نرى في كتاباته التعطش لبدء حياة طبيعية مع زوجة
وأبناء يشاركونه حياته، خصوصاً على ضوء ظهور النساء في حيز العمل والميادين
العامة ولو بشكل محدود. وسمح انتشار التعليم والكتابة لرجال ونساء الطبقات
الوسطى في المدن بتبادل الرسائل، ثم بالالتقاء علناً بمباركة عائلاتهم.
ونستشف من الرسائل الغرامية المتبادلة في العقدين الأولين من القرن العشرين
أن تطلعات الشباب نحو الحب قد تأثرت بقراءة الروايات الرومانسية الأوروبية
المنتشرة حينذاك. كما ساهم المصورون المحليون من أمثال الصوابيني وخليل
رعد وكارابديان في توفير صور البورتريه النصفية والتي اعتاد الأصدقاء
والعشاق أن يتبادلوها بمناسبة الأعياد وعند السفر. أصبحت الصور الشمسية
عربوناً للصداقة ورمزاً لتذكر المحبوب في فترات الغياب الطويلة. وغالباً ما
نرى الجندي وقد لبس أحسن ما عنده (وقد تكون البزة مستأجرة)، أو لبس اللباس
العسكري الرسمي وحمل البندقية من جهة وسيفاً مرصعاً باليد الأخرى.
بعكس كتابات الحب التي وصلتنا في رسائل معاصرة من أقلام مثقفي الطبقة
الوسطى في ذلك الحين من أمثال السكاكيني والصيداوي وجبران، كانت تجربة الحب
عند الترجمان مكتومة ومحاصرة لأن معشوقته، ثريا، كانت بعيدة المنال. ولم
تكن عائلتها على استعداد للتجاوب معه – بالرغم من شعورها نحوه – لان مهنته
كجندي عادي لم تكن تؤذن بمستقبل واعد أو دخل محترم. ومما عقّد الأمور أنها
كانت متحجبّة معظم الأوقات ولم يكن باستطاعته استراق النظر إليها إلا في
لحظات نادرة عندما كانت تدخل إلى حوش منزلها حيث كان يختبئ مترصداً قدومها.
استطاع أخيرا أن يترك لها صورته مع أخيها، على أمل أن تبادله بصورتها.
ومما زاد من إحباطه، ظهور أحد منافسيه في طلب ودها، وهو شاب أكبر منه وأوفر
حظاً في الدخل والمقام – يشير إليه الكاتب بالأحرف الأولى من اسمه أ.ب.
ويبدو من السياق أن أ.ب. قد يكون إشارة مخفية إلى اسم عادل جبر الذي كان
أستاذا في الكلية الصلاحية وصديقا مقرب من السكاكيني وعضواً بارزاً في حلقة
"حزب الصعاليك". من حسن طالع الترجمان أن ثريا وأمها لم تتجاوبا مع مبادرة
أ.ب. لكسب ودها. ولكن الخطر بقي قائماً لان الأب كان يتحدث عن إمكانية
زفافها على خاطبين آخرين. وفي كل الأحوال، يبدو أن هجوم الترجمان الشرس على
توجهات عادل جبر المؤيدة للسياسات العثمانية كان غطاءً لنفوره الشخصي من
الأخير وغيرته على تودده نحو ثريا.
أصبحت محبة إحسان لثريا، وفشله في الحصول عليها، رمزاً لبحثه الدؤوب عن
حياة طبيعية. وقد حرمته الحرب وحياته في الجندية من هذا المبتغى. ونرى في
أحلام اليقظة التي كان يعيشها يومياً مادة خصبة للهروب من الخدمة العسكرية –
وللانتقال إلى دعة الطبيعة الريفية حيث كان يتخيل نفسه وقد أصبح مزارعاً
واستقر في بيت السعادة مع ثريا. نرى هذا المشهد مكرراً أيضا في تخيلات محمد
الفصيح بالرغم من انضباطه العسكري – أو ربما بسبب هذا الانضباط – حيث كانت
تنتابه غالباً رغبات دفينة في الانتقال المفاجئ من ميدان المعركة إلى هدوء
الحياة الزوجية. وفي حالته، كان الحلم في الوصول إلى حياة عائلية مستقرة
أكثر إلحاحا على ضوء الحياة المزرية والموت المتوقع الذي كان يواجهه يومياً
في خنادق جناق قلعة: "اليوم انتابتني أحلام اليقظة وتخيلت نفسي سعيداً في
وسط أسرتي محاطاً بالأطفال. يا ترى هل سأعيش لأرى هذا اليوم؟ " (22 نوفمبر
1915). "يا الهي! هل سيأتي اليوم الذي انجب فيه طفلاً ويناديني يا أبي؟"
(24 نوفمبر)" هل سأحيا لأرى حبيبتي؟ يا رب خالق السموات والأرض وكل
المخلوقات التي تسكنها. حقق لي هذا الرجاء إن حياتي الطافحة بالأسى ستبقى
مجرد حسرة وتمنيات" (4 ديسمبر 1915).
بالمقارنة كان الترجمان، الذي أمضى كل سنوات شبابه في الحرب. تظهر نهاية
الحرب في مخيلته كَبرّ الأمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في بلاد أخرى وهي
في الغالب تأخذ شكل بيت زوجي سعيد في الريف السويسري، بالرغم من أن الكاتب
لم يغادر فلسطين في حياته قط. ولا شك أن هذا التصور – كما هو الحال في
تعابيره في الحب – كان يستعيره من قراءاته الرومانسية. نراه أيضا من
مناجاته لثريا، وهي المنعزلة عنه في بيتها ومحرم عليه أن يراها، يعمم حول
وضع المرآة العربية والمسلمة بشكل عام. وأصبحت حقبة ما بعد الحرب مرتبطة
بذهنه بقضية تحرير النساء. والتحرير عنده كان يعني انعتاق المرأة من عزلتها
المنزلية.
السعي إلى حياة طبيعية أصبح الهاجس الملح للأغلبية العظمى من الشباب –
عساكر ومدنيين – ممن خاضوا أهوال الحرب العظمى. وارتبطت نهاية الحرب في
أذهانهم بتحقيق سحري للحريات المفقودة الواعدة، ولعالم السكينة الذي
افتقدوه منذ سنوات قبل الحرب. كما بدت نهاية الحقبة العثمانية الآن وكأنها
بداية لنظام جديد عقلاني، بالرغم من هلامية هذا النظام في الجدل السياسي
السائد حينذاك – هل هو الوطن السوري، أم الاتحاد المصري الفلسطيني، أم نهضة
جديدة للأمة العربية؟ بعكس العديد من معاصريه ورفاقه عبر الترجمان عن
آماله هذه برغبة سلبية: الهزيمة النكراء لجيشه والانحلال السريع "لدولته"
السلطانية.
الخلاصة
عالجت في هذه الدراسة تأثير الحرب العظمى من خلال عدة مستويات من
الرؤيا: مستوى بلورة الهوية الوطنية القومية، ومستوى استبطان تجربة الحداثة
في أحاسيس الناس. يظهر هذان المستويان للوعي بعد مضي قرن من الزمن وكأنهما
خطاب واحد متكامل – بالرغم من كونهما تجربتين منفصلتين في وجدان الناس
الذين عاشوا أهوال الحرب العظمى. فأحاسيس الحداثة التي شملت ظهور
الفردانية، والحب الرومانسي، وزيادة فرص الحراك المهني، والحياة المستقلة
عن العائلة (وان كانت حياة تعتمد على حيّز العائلة)، كلها تحولات خاضها
الناس كتجارب لم ترتبط بأذهانهم بالضرورة بتبلور وعي قومي جديد في فلسطين،
مع ان الظاهرتين تزامنتا. ذلك أنه على الرغم من ارتباط هذين الحدثين معاً –
بمعنى أن التغيير الأول أوجد الإطار الهيكلي لحدوث الثاني، فالواقع أنهما
كانا منفصلين كتجربة حياتية. فقد كان ظهور الفردانية المستقّلة عن اطار
العائلة والقوم تجربة حادة وواضحة المعالم اتخذت شكل التمرد الإبداعي
والاستقلال الفردي، وكان التعبير عن الهوية الوطنية كانتماء متعدّ
للارتباطات المحلية – بعكس المتوقع – هلاميا ومجردا.
تتبدى أهمية يوميات العسكري إحسان (كما هو الوضع مع يوميات الفصيح
وآخرين من المقاتلين) في بُعدين. فقد تميزتا أولا في أن مؤلفيهما كانا
جنديين عاديين وغير مساءلين اتجاه السلطة من خلال آرائهما أو أعمالهما إلا
بالمعنى الأخلاقي الضيق. وثانياً تميزت كتاباتهما في أنها دُوِّنت في لحظة
حدوث الحدث، وبذلك سمحت لنا أن نستمع إلى خطاب ذلك الزمان بلغته وأن نعيش
التجربة كما تجلت للكتابة آنياً. فهي بالنهاية أفكار وأحاسيس لا تشوبها
الرقابة الذاتية ولا تخضع لعملية إعادة الصياغة على ضوء التجربة
الاسترجاعية.
تلقي يوميات الحرب أضواءً جديدة على التغييرات التي اجتاحت الحياة
اليومية في مدن المشرق العربي في نهاية الحقبة العثمانية. نرى ذلك في وصف
محمد الفصيح ليوميات القتال في جبهة جاليـﭘـولي، وفي يوميات الحياة اليومية
خلال خدمة إحسان الترجمان في القيادة العسكرية العثمانية في القدس، رغم
الاختلاف الجذري في تجربة الكاتبين، ورؤيتهما المتباينة للحرب. فهذه
اليوميات تعكس تحديداُ تمايز التركيب الإثني والتغيير في الوعي والانتماء
الوطني في أوساط جنود وضباط الجيش العثماني.
قاتل وقُتَل أعداد كبيرة من العرب في الجانب العثماني، تجاوزت أعدادهم
بعدة مرات أولئك الذين قاتلوا في صفوف الثورة العربية المناهضة للأتراك،
وذلك بالرغم من اختلاف درجات الانتماءات والتماثل لهؤلاء الجنود مع أهداف
الجيش السلطاني كما نرى بوضوح في يوميات الفصيح والترجمان.
إلا أن الحرب والدمار اللذين خلفتهما المعارك خلقا أوضاعا جديدة وأديا
إلى إحداث انفصام في أشكال الانتماءات الإثنية والقومية. وخلافاً للإجماع
الشائع حول تأريخ تلك الفترة، فان الجدل الذي نستشفه من هذه اليوميات حول
مستقبل فلسطين وسوريا يظهر تبايناً واضحاً بين التيارات الفكرية في المدن
الرئيسية.
ويبدو ان محاولات جمال باشا في بلورة وتشجيع التيار الإسلامي العثماني
في أوساط المثقفين الشاميين – من خلال منهاج الكلية الصلاحية ومشاريع
تربوية مماثلة – كان لها مريدون وأتباع. ومن الممكن القول أن انتصار التيار
العروبي الانفصالي لم يكن بالدرجة الأولى ناتجاً عن التحريض السياسي
لمناصري هذا الاتجاه بقدر ما كان يشكل ردة فعل مناهضة لقمع المثقفين
الوطنيين وجمعياتهم وأحزابهم وعن الامتعاض الشعبي الواسع من أساليب السلطة
في ضرب هذه الجمعيات.
كذلك لعب فشل الحملة العسكرية العثمانية لاحتلال مصر في معارك السويس
وبير السبع دوراً هاماً في خلق مناخ لفكرة "الخيانة العربية" في أذهان
القيادة العثمانية، مما مهد الطريق للتحالف الحجازي – البريطاني ضد القوات
العثمانية. وتلقي مذكرات فالح رفقي بيك – سكرتير جمال باشا الخاص- إضاءة
هامة على هذه الرؤية من الجانب التركي.
بالرغم من هذا التحول في العلاقات التركية – العربية، فإننا لا نرى
إجماعاً معادياً للفكرة العثمانية في أوساط النخب السورية – الفلسطينية
المثقفة. ومع أن الجماهير العربية كانت متعطشة للخلاص من الحرب ولمجيء حقبة
سلام واستعادة حياتها الطبيعية، إلا أن التيار الراعي للانفصال السوري كان
واحداً من عدة تيارات سياسية، تضمنت تلك التي كانت تدعو إلى الوحدة مع
مصر، وبالطبع تلك التيارات التي رأت مستقبل فلسطين في حكومة عثمانية لا
مركزية تحوز الأقاليم العربية فيها على الحرية والإدارة الذاتية. والملفت
للنظر أن أنصار هذا التيار العثماني ظلوا على ولائهم خلال الحرب والسنوات
التي تلتها.
فوق كل شيء، شكلت الحرب العظمى انفصاماً واضح المعالم مع الحقب السابقة.
عبّر عن هذا الانفصال ضابط عربي من قرية عنبتا بعد انتهاء الحرب بعدة
عقود. خدم الأومباشي محمد علي عوض في جبهات السويس وجناق قلعة (جاليبولي)
قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في فلسطين. "قاتلت في الدردنيل ضد جيوش الإنكليز
من أجل وطن عثماني لم يعد له وجود – ومع ذلك بقيت أقطن نفس الأرض". تقودنا
يوميات الحرب التي ناقشناها هنا إلى "بلد آخر" لا نكاد نستطيع التعرف إلى
ملامحه في حاضرنا بعد مرور قرن من الزمن وأربعة حروب. ففي هذه البلاد
العثمانية لم يكن هناك وجود فعلي للمشروع الصهيوني، وكانت العلاقات
الاجتماعية والتحالفات معرّفة بحدود البلدة أو المدينة أو الناحية التي
ينتمي إليها المرء. أما الحدود الجديدة فقد انطبعت في ذهن المواطنين بمواقع
القتال العسكرية في الدردنيل (غرباً) وكوت العمارة (شرقا) والسويس وصحراء
التية (جنوباً). إلا أن فظاعة الحرب جعلت المواطن يتساءل حول المسلمات
الأساسية في استيعابه لمفاهيم مثل العائلة والعمل والأمة. اتخذ هذا
الانفصام عدة سمات.
من جهة حُسمت الخيارات السياسية المتعددة خلال الحرب بمجيء السلطات
الانتدابية في سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. كما حسمت التوقعات
الشعبية حول التحالفات المتوقعة بين سوريا (أو فلسطين) مع مصر بترسيم حدود
جغرافية فاصلة بين المحميات الانتدابية. ولم تعد المدينة هي البوتقة
الأساسية لتحديد مفهوم المواطنة، وإنما أصبحت قاعدة الانطلاق التي تربط
شبكة من الأقاليم والمدن في إطار وطن جديد مبتور عن انتماءاته الشامية.
وبدلاً من الحراك الذي أنتجته الحرب من خلال التعبئة العسكرية والتهجير
العنصري للمدنيين نشأ حراك آخر طوعي يرتكز إلى التجارة والمهنة والبحث عن
فرص العمل المأجور. فجأة أصبح حلم إحسان الخيالي في إيجاد شريكة لحياته
خارج حدود مدينته واقعا جديدا، بل احتمالا واردا.
أما بالنسبة إلى التحولات في الوعي، فنستطيع الجزم بأنه ما من حرب
خاضتها فلسطين كان لها هذا الأثر الجذري على حياة الأمة. حتى حرب النكبة،
عام 1948، التي أدت إلى تدمير بنية المجتمع وتشريد أهالي الساحل عن مدنهم
وقراهم وخلق أجيال من أبناء المهجرين، فهي لم تؤد إلى هذا الانقطاع
والانفصال عن ماضيه القريب.
لا يوجد حالياً أي تعليق
الأحد أغسطس 28, 2011 4:20 am من طرف ماها
» عش في خطر وِشيّدْ منزلك في الربع الخالي!
الأحد أغسطس 28, 2011 4:19 am من طرف ماها
» عام الجراد...مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى: نهاية "الوطن العثماني" والانقطاع عن الماضي
الأحد أغسطس 28, 2011 4:18 am من طرف ماها
» "العمل الجنسي" في المغرب والصحة العمومية
الأحد أغسطس 28, 2011 4:17 am من طرف ماها
» "العمل الجنسي في المغرب": تعريفا ووظائف
الأحد أغسطس 28, 2011 4:16 am من طرف ماها
» في الانتقال الجنسي
الأحد أغسطس 28, 2011 4:14 am من طرف ماها
» التربية الجنسية ضرورة عمومية
الأحد أغسطس 28, 2011 4:13 am من طرف ماها
» الجنس واليسار والإعلام
الأحد أغسطس 28, 2011 4:12 am من طرف ماها
» الوقاية أو الاجتهاد المغلق
الأحد أغسطس 28, 2011 4:11 am من طرف ماها