2.2. السماء
نجد في مدوّنة أهل السنّة نصوصا كثيرة تحدثنا عن خلق السماوات وعن
«عُمَّارِهَا» وأهمّ هذه النصوص نصّا الكسائي والثعلبي، وسنعمد إلى نص
الكسائي لإيجازه ودقته وثرائه دون أن نغفل ما يمكن أن يثريه من نص الثعلبي.
يقول الكسائي: " قال ابن عباس رضي الله عنهما أمر الله تبارك وتعالى
البخار الذي على الماء أن يعلوَ الهواءَ فخلق منه السماء في يومين فكانت
سماء واحدة في يومين فأوحى الله تبارك وتعالى في كل سماء أمرها وسمّاها
واحدة في يومين وما بينهما ثمّ تفتقت السماء والأرض خوفا من ربهما فصارتا
سبع سماوات وسبع أرضين فذلك قوله عزّ وجلّ ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا
فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ ثم قال ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ فالسماء الأولى من زمرّدة خضراء
واسمها يرقيعا وسكّانها ملائكة على صور البقر وقد أوكل الله بهم ملكا اسمه
إسماعيل فهو حارسها والثانية من ياقوتة حمراء واسمها قيدوم وسكانها ملائكة
على صور العقبان[1]
والملك الموكّل بهم اسمه ميخائيل وهو حارسها والثالثة من ياقوتة صفراء
واسمها ماعون وسكانها ملائكة على صورة الثور والملك الموكّل بهم اسمه
صعدياييل وهو حارسها والرابعة من الفضة واسمها أنيلون وسكانها ملائكة على
صورة الخيل والملك الموكّل بهم اسمه صلماييل وهو حارسها والخامسة من الذهب
الأحمر واسمها رتقا وسكانها ملائكة على صور العيق[2]
والملك الموكل بهم اسمه كلكياييل وهو حارسها والسادسة م زمردة بيضاء
واسمها رتقا وسكانها ملائكة على صور الدوابّ والملك الموكل بهم اسمه
سمخاييل وهو حارسها والسابعة من نور يتلألأ واسمها عريما وسكانها ملائكة
على صورة بني آدم والملك الموكل بهم اسمه فرهياييل وهو حارسها. قال كعب رضي
الله تعالى عنه فهؤلاء الملائكة لا يفترون عن التسبيح والتهليل والعبادة
في القيام والقعود والركوع والسجود وذلك قوله تعالى ﴿يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ قال عبد الله بن سلام فهم كروبيون
وروحانيون وصافون وحافون وراكعون وساجدون وبين يدي السماوات السبع حجاب
وفي الحجاب ملائكة لا يعرفون بعضهم بعضا لكثرة عددهم يسبحون الله تعالى
بلغات مختلفات كالرعد القاصف قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفوق
الحجاب ملائكة قد أخرقت أقدامهم السماوات السبع والأرضين السبع وجاوزتها
بخمسمائة عام فأقدامهم تحت الأرض السفلى كأنها الرايات البيض"[3]
وحديث الكسائي عن "السماوات" يختلف عمّا جاء عند الثعلبي اختلافا يكشف
ثراء تصوّر المؤلِّفَيْنِ، ومن ورائهما أهل السنة، للسّماء. ولتحقيق
المقارنة بين الكسائي والثعلبي نورد قوليهما ضمن هذا الجدول:
الكسائي السماوات السبع
| الثعلبي السماء الدنيا= موج مكفوف؛ السماء الثانية= من صخرة؛ السماء الثالثة= من حديد؛ السماء الرابعة= من نحاس؛ السماء الخامسة= من فضة، السماء السادسة= من ذهب؛ السماء السابعة= من ياقوتة بيضاء.[4] السماوات السبع
فوق السماوات= مرهوثا… |
ما يلفت الانتباه عند الكسائي والثعلبي أمران أوّلهما حرصهما على بيان
العنصر الذي منه كانت السماوات وسعيهما المشترك إلى تحقيق تدرّج من الضباب
إلى الصفاء، ومن العتمة إلى النور. وقد تمّ ذلك عند الثعلبي من "موج مكفوف"
وصولا إلى ياقوتة بيضاء مرورا بجملة من المعادن معروضة حسب شرف عنصرها من
الصخرة إلى الحديد فالنحاس فالفضة والذهب. أمّا الكسائي فقد عرج إلى الصفاء
بُرَاقُهُ الزّمرّد والياقوت فكان انطلاقه من زمرّدة خضراء وصولا إلى
النور المحض، وما يربط بين الزمردة الخضراء والعتمة أن العرب تقول عن
الأسود من الأشياء أخضر وعن أخضرها أسود.[5]
وثاني الأمرين اللذين يشترك فيهما الكسائي والثعلبي هو حرصهما على بيان
سكّان السماوات وهم أساسا من الملائكة بأجنحتهم المتعددة وصورهم المتباينة.
إذ "ليس في السماوات السبع موضع قدم إلاّ وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد"[6]
إضافة إلى طيور أرسلها الله على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل وديك "براثنه
تحت الأرض السابعة وعرفه منطوٍ تحت العرش قد أحاط جناحاه بالأفقين فإذا بقي
ثلث الليل الأخير ضرب بجناحيه ثم قال سبحان ربنا الملك القدوس فيسمعها من
بين الخافقين فترون الديكة إذا سمعت ذلك"،[7] وأوعال "ثمانية … بين ركبهنّ وأظلافهنّ كما بين السماء والأرض ثمّ على ظهورهم العرش…".[8]
تبدو السماء عالما نورانيا نتدرّج فيها ممّا يحمل النور (الجواهر
واليواقيت) إلى النور ذاته فالسماء السابعة "من نور يتلألأ" يغشى السماء
فلا يرى مصدره وفوق السماء السابعة "بحر بين أسفله وأعلاه بين السماء
والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال… والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه من
أعمال بني آدم شيء"[9]
فالنور هو جوهر السماوات الأوّل. والسماء موطن الرّوح إذ "قد علمنا أن ما
تعالى عن وجه الأرض دخل في حدّ الروحانيين فكل ما ارتفع درجة ازداد لطافة
ورقّة".[10]
إن عالم السماوات هو عالم النّور والروح واللطافة في حين أن عالم الأرض
هو عالم الظّلمة والكثافة، وسكّان الأرض هوامّ (عقارب، وأفاع…) أشدّ ما
تكون التصاقا بالأرض، زواحفُ ممّا يعيش تحت الأرض، وسكّان السماء لا يكادون
يتحركون ولا يرفعون رؤوسهم خشية وليس لهم من الفعل إلاّ القول وهو التسبيح
والتهليل… وإن اتجه أحدهم إلى الفعل فعن أمر الله واستجابة إلى مهمّة توكل
إليه، فالسماء عالم القول والسكون.
إن التوازي بين العالمين عميق، فهو بين الظلمة والنور،[11]
والفعل والقول، والحركة والسكون، ولئن وجدنا تناظرا بين العالمين، شأن
التناظر العددي (سبع أرضين، سبع سماوات) أو التناظر في صور السكان التي
يستقيها أصحاب النصوص من العالم الحيواني، فإن هذا التناظر يقوم على
التقابل بين "الجسماني والروحاني"[12] و"العالم السفلي والعالم العلوي".[13]
إن الصورة التي ترسمها أساطير الخلق عند أهل السنّة عن السماء والأرض
وعن العلاقة بينهما قريبة من تصورات الثقافات القديمة لعالمي العذاب
والجزاء، عالم مملكة هاديس وعالم الأولمب عند اليونان، وعالم "كور" الأرضي
المظلم وعالم "آن" السماويّ المشرق عند السومريين، وعالم أريشكيجال ونرجال
المرعبين وعالم مردوخ المنير عند البابليين… وشبيه بعالم هاديس أو كور أو
أريشكيجال ونرجال أو عالم ما تحت الأرض ما جاء في سفر أيّوب من وصف لعالم
الموت إذ يقول: "أليست أيامي إلى حين فأكفّف عنّي فأرتاح قبل أن أنصرف
انصراف من لا يؤوب إلى أرض ظلمة وظلال موت، أرض دجيّة حالكة كالديجور،
وظلال موت لا نظام فيها ونهارها كالديجور".[14]
وهذا التقابل بين عالمي النور والظلمة يحضر في الثقافة العربية الإسلامية من خلال مبحث الردود العقائدية على المجوس والثنوية[15] أو من خلال الردّ على بعض فرقهم كالكيومرثية.[16]
ولكن تصور السنة القائم على التوازي تحايثه رؤية تسعى إلى إقامة علاقة بين
العالمين بدت من خلال مسألة أي العالمين أسبق خلقا الأرض أم السماء؟ ومن
خلال دلالات الثور والحوت.
ومسألة الأسبقيّة مسألة كلاميّة انتهى الاختلاف فيها إلى قول ابن كثير
في البداية والنهاية: "…فهذا يدلّ على أن الأرض خلقت قبل السماء لأنها
كالأساس للبناء كما قال تعالى ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ
قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً﴾"،[17]
فالأرض أساس السماء وأصلها، وجبل قاف، الذي يحيط بالأرض، هو الذي عليه
تقوم السماء وبه تبدأ القيامة فقد جاء في معجم البلدان: " قالوا وأنبت الله
تعالى من تلك الياقوتة التي على سنام الثور جبل قاف فأحاط بالدنيا فهو من
ياقوتة خضراء فيقاد واللهُ أعلم أن خضرة السماء منه ويقال إن بينه ويين
السماء قامة رجل."[18]
إن الأرض تسبق السماء لأنه لا بدّ للمحمول من حامل، وهو ما قد يثير مسألة
شرف الحامل والمحمول على سبيل ما رأينا عند حديث أهل السنة عن الله وعرشه.
لأن السماء وإن كانت محمولة فهي التي تحدّد مصير الأرض.
أمّا الثور والحوت فسيِّدان أحدهما سيّد البهائم والآخر سيِّد البحر.
والثور رمز القوّة والقدرة والفحولة، وهو رمز من رموز القوى المقدّسة التي
تحكم العالم عند مختلف الديانات،[19]
والحوت وإن بدا كائنا ضخما فإنه رمز للكائنات المقدّسة في الحضارات
القديمة وهو يقيم من خلال حكاية النبيّ يونس، علاقة بين عالمين هما السماء
التي تمثّل مصدر الخلق والأمر والنهي والبحر الذي يمثل امتدادا لهذا العالم
من خلال لفظ الحوت النبي يونس، باعثا له إلى الحياة من جديد، بعد أن عاقبه
الله بأن التقمه الحوت وهو مليم.[20]
والأرض إذ تقوم عليهما فإنّما تقوم على العظيم من الخلق لا على حقيره
لأنها دلالة في تصوّر أهل السنة على عظمة خالقها. واجتماعهما لحمل الأرض
اجتماع لأسباب الحياة والمعاش فالثور "عمدة عدّة الحارث المهتمّ لأمر
معاشه"[21]
والحوت مَصيدُ الصّائدِ ولا يخلو غذاء الكائنات من أن يكون إمّا نباتا أو
حيوانا ولذلك "يُؤَوِّلُ بعضهم خبر الترتيب [ترتيب حاملي الأرض من ملك
وياقوتة وثور وحوت…] بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على
الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادئ الحراثة
والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء".[22] غير أن الثور والحوت ليسا منقطعين تحت الأرض بل "إن ذنب الحوت عند رأسه مستدير تحت الأرض السفلى وطرفاه منعقدان تحت العرش"[23]
فالحوت «مكان» جامع بين السماء والأرض وهو جمع يتدعّم عندما نرى ما يفيد
التشابه بين الأرضين فيما بينها وبين الأرض الأولى والسماوات. فقد "أخرج
عبد الرزاق… عن قتادة في قوله خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ قال في كلّ
سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه… وعن ابن عبّاس
في قوله ومن الأرض مثلهنّ قال لو حدّثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم بتكذيبكم
بها… وعن ابن عباس ومن الأرض مثلهنّ قال سبع أرضين في كل أرض نبيّ كنبيِّكم
وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى".[24]
وهذا التناظر بين الأرضين، سواء من حيث ما فيها من حياة وحركة كما رأينا
ذلك في نص الثعلبي ونص الكسائي، أو من حيث أن الأراضي السفلى نسخة عن التي
فوقها، لا يجعل الأرض منقطعة في "أرضيتها" بل إنها تمتدّ إلى السماوات
بأسباب أقواها أن للسماوات بيوتا حرما بإزاء البيت الحرام حتى أنها لو
تداعت لوقعت على بعضها. إن الأرضين والسماوات مترابطة مكانا (الحوت، جبل
قاف…) وعمرانا ومكانة إذ كما أن السماء التي فيها العرش هي سيِّدة السماوات
فإن الأرض التي نحن عليها هي سيِّدة الأرضين.[25]
نرى إذن أنّ العلاقة التي تجمع الأرض والسماء هي التي تحكم رؤية أهل
السنّة وتحدّد استراتيجية خطابهم، وقد رأينا أن هذه الرؤية تجمع بين
درجتين، درجة أولى تقيم التقابل والتناقض بينهما (نور/ظلمة، حركة/سكون،
وجود/عدم…)، ودرجة ثانية تقيم بينهما نوعا من التواصل وعدم الانقطاع فكلا
المجالين حيٌّ وبينهما عناصر تشدّهما إلى بعضهما. إن بدء التاريخ وبدء قصص
الأنبياء بتحديد إطارين لهما هما الأرض والسماء من ناحية، وتحديد هذين
الإطارين من خلال بناء عموديّ فاصل واصل بينهما سيُمَكِّنُ من القول
بالهبوط من السماء إلى الأرض هذا القول الذي سيميِّز النصّ التكويني
الإسلامي عن النص التكويني التوراتي.
الأحد أغسطس 28, 2011 4:20 am من طرف ماها
» عش في خطر وِشيّدْ منزلك في الربع الخالي!
الأحد أغسطس 28, 2011 4:19 am من طرف ماها
» عام الجراد...مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى: نهاية "الوطن العثماني" والانقطاع عن الماضي
الأحد أغسطس 28, 2011 4:18 am من طرف ماها
» "العمل الجنسي" في المغرب والصحة العمومية
الأحد أغسطس 28, 2011 4:17 am من طرف ماها
» "العمل الجنسي في المغرب": تعريفا ووظائف
الأحد أغسطس 28, 2011 4:16 am من طرف ماها
» في الانتقال الجنسي
الأحد أغسطس 28, 2011 4:14 am من طرف ماها
» التربية الجنسية ضرورة عمومية
الأحد أغسطس 28, 2011 4:13 am من طرف ماها
» الجنس واليسار والإعلام
الأحد أغسطس 28, 2011 4:12 am من طرف ماها
» الوقاية أو الاجتهاد المغلق
الأحد أغسطس 28, 2011 4:11 am من طرف ماها